فصل: تفسير الآيات (77- 81):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}:
{إنْ} هذه فيها المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين: أنها مخففةٌ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين {إنْ} النافية، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى ما النافيةِ، واللامُ بمعنى إلا. وضُمِّنَ {يَفْتِنُونَك} معنى يَصْرِفُونك فلهذا عُدِّي ب {عن} تقديرُه: لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم. و{لتفترِيَ} متعلِّقٌ بالفتنةِ.
قوله: {وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ} إذن: حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها، و{لاتَّخذوك} جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه: إذن واللهِ لاتَّخذوك، وهو مستقبلٌ في المعنى، لأنَّ إذَنْ تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ. وهذا كقولِه: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّواْ} [الروم: 51]، أي: ليَظَلُّنَّ. وقولُ الزمخشري: أي: ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك تفسيرُ معنى لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ {لاتَّخَذُوك} جوابٌ ل {لو} محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه.
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}.
قوله تعالى: {تَرْكَنُ}: العامَّة على فتح الكاف مضارع رَكِنَ بالكسر، وقتادة وابنُ مُصَرِّف وابنُ أبي إسحاق {تَرْكُن} بالضمِّ مضارعَ رَكَنَ بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدَّم تحقيقه في أواخر هود.
وقوله: {شيئًا}: منصوبٌ على المصدر، وصفتُه محذوفة، أي: شيئًا قليلًا من الرُّكون.
{إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}.
قوله تعالى: {ضِعْفَ الحياة}: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف حقيقةُ هذا الكلام؟ قلت: أصلُه: لأَذَقْناك عذابَ الحياةِ وعذابَ المماتِ؛ لأنَّ العذابَ عذابان، عذابٌ في المماتِ وهو عذابُ القبرِ، وعذابٌ في حياةِ الآخرةِ وهو عذاب النار، والضِّعْفُ يُوصَفَ به، نحوَ قولِه تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النار} [الأعراف: 38] يعني عذابًا مُضاعَفًا، فكأنَّ أصلَ الكلامِ: لأَذَقْناك عذابًا ضِعْفًا في الحياة، وعذابًا ضِعْفًا في المَمَات، ثم حُذِف الموصوفُ، وأُقيمت الصفةُ مُقامه وهو الضَّعْف، ثم أُضِيْفَتِ الصفة إضافةَ الموصوف فقيل: ضِعْفَ الحياة، وضِعْفَ المماتِ، كما لو قيل: أليمَ الحياةِ، وأليم الممات. والكلامُ في إذن و{لأَذَقْناك} كما تقدَّم في نظيره.
{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}.
قوله تعالى: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ}: قرأ العامَّةُ برفع الفعل بعد إذَنْ ثابتَ النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامَّة. ورفعُهُ وعدمُ إعمالِ إذن فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أنها توسَّطَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه. قال الزمخشري: فإن قلت ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعةُ-يعني برفعِ الفعلِ- فقد عُطِف فيها الفعلُ على الفعلِ، وهو مرفوعٌ لوقوعِه خبرَ كاد، وخبرُ كاد واقعٌ موقعَ الاس. قلت: فيكون {لا يَلْبِثُون} عطفًا على قوله: {لِيَسْتَفِزُّونك}.
الثاني: أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: ووالله إذن لا يلبثون.
الثالث: أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه، فأُلْغِيَتْ لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون.
وقرأ أبي بحذفِ النون، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور، وبأَنْ مضمرةً بعدها من غيرِهم، وفي مصحف عبد الله «لا يَلْبَثُوا» بحذفِها. ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفًا على ما تقدَّم ولا جوابًا ولا خبرًا. قال الزمخشري: وأمَّا قراءةُ أبي ففيها الجملةُ برأسها التي هي: {إذًا لا يَلْبثوا} عَطَفَ على جملة قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ}.
وقرا عطاء: {لاَّ يَلَبَثُونَ} بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء، مشددةً مبنيًا للمفعول، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد. وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ، جَعَلَه مبنيًا للفاعل.
قوله: {خِلافَك} قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ: {خِلافَك} بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام. والقراءتان بمعنى واحدٍ. وأنشدوا في ذلك:
عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما ** بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْرًا

وقال تعالى: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} [التوبة: 81] والمعنى: بعد خروجك. وكثُر إضافةُ قبل وبعد ونحوِهما إلى أسماءِ الأعيان على حَذْفِ مضافٍ، فيُقَدَّر من قولك: جاء زيدٌ قبل عمروٍ: أي: قبل مجيئِه. قوله: {إِلاَّ قَلِيلًا} يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف، أي: لُبْثًا قليلًا، أو إلا زمانًا قليلًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)}.
ضربنا عليك سرادقاتِ العصمة، وآويناكَ في كنف الرعاية، وحفظناك عن خطر اتباعك هواك، فالزَّلَّةُ منك محال، والافتراءُ في نعتك لا يجوز.. ولو جَنَحْتَ لحظةً إلى الخلاف لَتَضَاعَفَتْ عليكَ تشديداتُ البلاء، لكمالِ قَدْرِك وعُلُوِّ شأنك؛ فإنَّ مَنْ كان أعلى درجةً فَذَنْبُه- لو حصل- أشدُّ تأثيرًا.
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}.
لو وكلناكَ ونَْفسَكَ، ورفعنا عنك ظِلَّ العصمة لأَلَمَمْتَ بشيءٍ مما لا يجوز من مخالفة أمرنا، ولكننا أفردناكَ بالحفظ، فلا تتقاصر عنكَ آثارُه، ولا تَغْرُبُ عن ساحتك أنوارُه.
قوله: {إِذًا لأَذَقْنَاكَ...} الآية هبوطُ الأكابر على حسب صغودهم، ومِحَنُ الأَحِبَّةِ وإِنْ قَلَّتْ جَلَّتْ، وفي معناه أنشدوا:
أنت عيني وليس من حقِّ عيني ** غضٌّ أجفانها على الإقذاء

{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}.
مَنْ ظنَّ أنه يستمتع بحياته بعد مضيّ الأَعِزَّة والأكابر غَلِطَ في حسابه، وإن الحسودَ لا يسود:
وفي تعبٍ مَنْ يَحْسُدُ الشمسَ ضوءَها ** ويجهد أن يأتي لها بضريب

والأرض كلها مِلْكٌ لنا، ونُقَلِّب أولياءَنا في ترددهم في البلاد وتطوافهم في الأقطار، تردًا على بساطنا، وتقلبًا في ديارنا؛ فالبقاع لهم سواء، وأنشدوا:
فَسِرْ أو أَقِمْ وَقْفٌ عليكَ محبتي ** مكانُكَ من قلبي عليك مصونُ

اهـ.

.تفسير الآيات (77- 81):

قوله تعالى: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)}.

.مناسبة الآيات لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبره بذلك، أعلمه أنه سنته في جميع الرسل فقال تعالى: {سنة} أي كسنة أو سنتنا بك سنة {من قد أرسلنا} أي بما لنا من العظمة.
ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى: {قبلك} أي في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم بالعقوبة {ولا تجد لسنتنا} أي لما لها من العظمة {تحويلًا} أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفًا لهم بهذا النبي الكريم.
ولما قرر أمر أصول الدين بالوحدانية والقدرة على المعاد، وقرر أمرهم أحسن تقرير، واستعطفهم بنعمه، وخوفهم من نقمه، وقرر أنه سبحانه عصمه عليه الصلاة والسلام من فتنتهم بالسراء والضراء بما أنار به من بصيرته، وأحسن من علانيته وسريرته، صار من المعلوم أنه قد تفرغ للعبادة، وتهيأ للمراقبة، فبدأ بأشرفها فوصل بذلك قوله تعالى: {أقم} أي حقيقة بالفعل ومجازًا بالعزم عليه {الصلاة} بفعل جميع شرائطها وأركانها ومبادئها وغاياتها، بحيث تصير كأنها قائمة بنفسها، فإنها لب العبادة بما فيها من خالص المناجاة بالإعراض عن كل غير، وفناء كل سوى، بما أشرق من أنوار الحضرة التي اضمحل لها كل فان، وفي ذلك إشارة عظيمة إلى أن الصلاة أعظم ناصر على الأعداء الذين يريدون بمكرهم استفزاز الأولياء، وأدفع الأشياء للضراء، وأجلبها لكل سراء، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة كما تقدم تخريجه في آخر الحجر؛ ثم عين له الأوقات بقوله تعالى: {لدلوك الشمس} أي زوالها واصفرارها وغروبها، قال في القاموس: دلكت الشمس: غربت أو اصفرت أو مالت أو زالت عن كبد السماء.
فحينئذ في هذه اللفظة دلالة على الظهر والعصر والمغرب من استعمال المشترك في معانيه، أما في الظهر والمغرب فواضح، وأما في العصر فلأن أول وقتها أول أخذ الشمس في الاصفرار، وأدل دليل على ذلك أنه غيّا الإقامة بوقت العشاء فقال تعالى: {إلى} حثًا على نية أن يصلي كلما جاء الوقت ليكون مصليًا دائمًا، لأن الإنسان في صلاة ما كان ينتظر الصلاة، فهو بيان لأن وقت المغرب من الدلوك الذي هو الغروب إلى أن يذهب الشفق {غسق الّيل} فالغسق: ظلمة أول الليل، وهو وقت النوم؛ وقال الرازي في اللوامع: وهو استحكام ظلمة الليل، وقال الرماني: ظهور ظلامه؛ ثم عطف عليه بتغيير السياق قوله تعالى: {وقرءان} فكأنه قال: ثم نم وأقم قرآن {الفجر} إشارة إلى الصبح، وقيل: نصب على الإغراء، وكأنه عبر عنها بالقرآن لأنه مع كونه أعظم أركان الصلاة يطول فيها القراءة ما لا يطول في غيرها، ويجهر به فيها دون أختها العصر وتشويقًا بالتعبير به إليها لثقلها بالنوم.
ولما كان القيام من المنام صعبًا، علل مرغبًا مظهرًا غير مضمر لأن المقام مقام تعظيم فقال تعالى: {إن قراءن الفجر كان مشهودًا} يشهده فريقا الملائكة، وهو أهل لأن يشهده كل أحد، لما له من اللذة في السمع، والإطراب للقلب، والإنعاش للروح، فصارت الآية جامعة للصلوات؛ روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة رضى الله عنهم قال: فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر، يقول أبي هريرة: اقرؤوا إن شئتم {إن قرءان الفجر}- الآية.
قالوا: وهذا دليل على وجوب الصلاة بأول الوقت، وأن التغليس بصلاة الفجر أفضل؛ ثم حث بعدها على التهجد لأفضليته وأشديته فقال تعالى: {ومن} أي وعليك بعض، أو قم بعض {الّيل فتهجد} أي اترك الهجود- وهو النوم- بالصلاة {به} أي بمطلق القرآن، فهو من الاستخدام الحسن {نافلة لك} أي زيادة مختصة بك؛ قال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب: وأصل النفل الزيادة، ومنه الأنفال الزائدة على الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة، وقال أبو عبد الله القزاز: النوافل: الفواضل، ومن هذا يقولون: فلان ممن ترجى نوافله- انتهى.
فهو زيادة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الفرض وللأمة في التطوع، وخص به ترغيبًا للأمة لأنهم يعلمون أنه لا يخص إلا بخير الخير، لأنه الوقت الذي كني فيه عن استجابة الدعاء بالنزول إلى السماء الدنيا اللازم منه القرب الوارد في الأحاديث الصحيحة أنه يكون في جوف الليل، لأن من عادة الملوك في الدنيا أن يجعلوا فتح الباب والقرب منه ورفع الستر والنزول عن محل الكبرياء أمارة على قضاء الحوائج، وكل ما يعبر به عن الله تعالى مما ينزه سبحانه عن ظاهره يكون كناية عن لازمه، وبين ذلك حديث رويناه في جزء العبسي عن عثمان بن أبي العاص رضى الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن في الليل ساعة يفتح فيها أبواب السماء فينادي مناد: هل من داع فيستجاب له؟» إلى آخره، فهذا شاهد عظيم لهذا التأويل.